أنشودة الغياب والحرية

بقلم

د. قاسم محمد كوفحي

إذا كنتَ حرًّا في دِيارك، آمناً بين الجدران التي تعرفك، والسماء التي تحرسك،
فتذكّر أن هناك من هُجِّر من أوطانهم، من أسماءٍ صارت غريبة، ومن أرضٍ صارت سرابًا،
هناك في أطراف البقاع، حيث الريح تعوي على أطلال الماضي،
يسيرون كالأشباح بين أطلال الحياة، يحملون عتمة الغياب، ويبحثون عن وطنٍ لم يولد بعد في الذاكرة.

ومن بُطش البغاة تهشمت الجماجم، واغتسلت الأرواح في طوفانٍ بلا شاطئ،
كم من عليلٍ يرقد في الأسرّة مُفقد الأمل،
وكم من عميدٍ يئن بعد ليالي فقد الأحبة،
ليالي صار فيها الليل سردابًا بلا أبواب، وصدى صوته يختبئ بين الجدران.

تعلّم أن تكون شاكراً للنعم، ولو كانت خفية،
ففي الناس من هم أهل البلاء، كثيفون كالسحاب، ثقيلون كالأرض،
يُغرقهم الجوع، يُقمعهم البرد، ويظلّون يبحثون عن لمسة حنان، عن وطنٍ لم يولد بعد،
عن ماءٍ يروي العطش، عن صوتٍ يخرجهم من ظلمة الصمت الطويل.

إذا كنتَ حرًّا، فليكن قلبك مأوى،
لا يحصي الأعداء فقط، بل يحصي كل النعم الخفية بين أطراف الغيم،
ليكن قلبك بيتًا يرحّب بالموجوعين، وبالمغرّبين، وبالمشردين،
ليكن قلبك نورًا لا ينطفئ، لأنه الجسر الوحيد من الخوف إلى الأمان،
ومن الألم إلى معرفة الرحمة.

تذكّر أن الحرية ليست مجرد غياب القيود،
ليست مجرد العيش بين الأقارب، بين جدران مألوفة،
إنما هي حضور الرحمة في قلبك، حضور الشكر في ليلك،
وحضور العطف في كل ما يحيط بك، وحضور الحكمة في ما لا يُرى.

احمل في ضميرك كل المشردين، كل المُنهَكين، كل الذين يئنّون في الظلام،
واحتضنهم بصمتك، وبصبرك، وبنورك الذي لا يزول،
واعلم أن كل نعمةٍ تعيشها، هي نهر صغير بين قسوة العالم،
وكل لحظة أمان هي جسرٌ من الألم إلى الشفاء،
وكل قلب شاكِر صدى للحرية الحقيقية،
التي لا تنبت في الجدران، بل في الروح، في الأفق، في النجوم التي تلمع في الظلام.

وفي الليل، حين يئنّ العالم بصوت الريح،
ستدرك أن الإنسان ليس وحده،
وأن الحرية ليست فقط أن تعيش بلا قيود،
بل أن تعرف كيف تُضيء العتمة، وكيف تجعل الصمت مسرحًا للحياة،
وكيف تتحوّل كل دمعة إلى نهر، وكل صرخة إلى دعاء،
وكل قلبٍ متألم إلى وعيٍ بالغيب، يقودك إلى السلام.

وإذا جلستَ بين جدران بيتك، تأمل النجوم، واسمع صدى القلوب البعيدة،
ستفهم أن العالم كله أطلس من المعاناة، وأن الحرية الحقيقية هي أن تكون حاضرًا،
بين هؤلاء المشردين والمغرّبين، بين الذين فقدوا كل شيء،
تحمل لهم شعاعك، وتحافظ على ضوءك،
لتعرف أن النعمة ليست حقًّا يُكتسب، بل صمتٌ، وعطاءٌ، وشكرٌ، ووعيٌ بالمصير المشترك.

الشارقة : 2-2-2010