تُعدّ العبارة المتداولة اليوم بين الناس: “أرسل لي الوكيشن” مثالًا حيًّا على التداخل اللغوي الذي يشهده اللسان العربي في ظل العولمة الرقمية واتساع نطاق الاتصال التكنولوجي. فالناس، حين يستعملون كلمة “الوكيشن” عوضًا عن “الموقع”، لا يفعلون ذلك عجزًا عن إيجاد مرادف عربي، بل يعكس ذلك تحوّلًا اجتماعيًّا ولسانيًّا تُدرسه اللسانيات الاجتماعية في سياقها الثقافي والتواصلي.
تتصل هذه الظاهرة بما يسمى بـ”الازدواجية اللغوية” أو حتى “التهجين اللغوي”، حيث تتلاقى اللغة الأم مع مفردات من لغات أجنبية تُستعار لتؤدي وظائف محددة في الحياة اليومية. فالفظ “لوكيشن”، وإن كان من الناحية الدلالية مرادفًا دقيقًا لكلمة “الموقع”، إلا أن السياق التداولي الذي تُستخدم فيه قد يحمّله دلالة اجتماعية إضافية ترتبط بتكنولوجيا الهواتف الذكية وتطبيقات الخرائط والتواصل الفوري. فـ”أرسل لي الموقع” قد تبدو – في ذهن المتحدث – صيغة تقليدية لا تعبر بدقة عن الإجراء التقني الذي يتمثل في إرسال رابط جغرافي مباشر عبر تطبيقات معينة، بينما “أرسل لي الوكيشن” باتت عبارة مشبعة بدلالة وظيفية حديثة تشير إلى هذا الفعل التقني ذاته.
من منظور علم اللغة الاجتماعية، لا يمكن فهم هذه الظاهرة بمعزل عن السياقات الاجتماعية التي تنتجها وتعيد إنتاجها. فاختيار اللفظ الأجنبي هنا لا يعدّ خيانة للغة الأم، وإنما انعكاس لواقع تواصلي يتداخل فيه المحلي بالعالمي، ويعيد تشكيل الذوق اللغوي للأفراد وفق متغيرات العمر، والمهنة، والانتماء الطبقي، والانخراط في ثقافة التقنية. وقد يُلاحظ أن استخدام “الوكيشن” أكثر شيوعًا في أوساط الشباب أو المتعلمين أو من لهم صلة مباشرة بالتكنولوجيا الحديثة، مما يمنحها صفة التميز الاجتماعي أو الارتباط بعالم الحداثة، في مقابل “الموقع” التي قد توحي بالبُعد الرسمي أو التقليدي.
إن الموقف من هذه الظاهرة ينبغي أن يتحرر من النزعة التقييمية التي تسارع إلى إصدار الأحكام على المتكلمين، سواء بالتقريظ أو بالتقريع. فالمتكلم ليس آلةً تحفظ اللغة بمعناها القاموسي، بل هو فاعل اجتماعي يتكيف مع حاجاته التفاعلية، ويستثمر ما يخدم مقصده التواصلي من مفردات، سواء أكانت من لغته الأم أم من غيرها. ومع ذلك، لا يعني هذا القبول المطلق لاستبدال المفردات العربية بأجنبية، بل يدعو إلى تأمل الظاهرة برويّة، وإدراك أن مقاومة الذوبان في لغة الآخر لا تكون بمنع الاستعمال، وإنما بإحياء المفردات العربية وتطوير بنيتها التداولية لتستجيب لتغيرات العصر، فتظل حية وفاعلة في وجدان المتكلم.
وبهذا يتضح أن عبارة “أرسل لي الوكيشن” ليست مجرد انزلاق لغوي أو ترف لفظي، بل تجسيد لحراك اجتماعي لغوي، يستحق أن يُدرس بوصفه مؤشرًا على تحول أنماط التواصل في مجتمعاتنا، وعلى التفاعل الدائم بين اللغة والهوية والتقنية والثقافة.