رمزية " هون مربط الفرس" في نسيج التواصل الاجتماعي

بقلم

د. قاسم محمد كوفحي

تحتفظ اللغة الشعبية بكنوز من العبارات التي تتجاوز حدود المعنى المباشر لتكشف عن عمقٍ ثقافي واجتماعي متجذر في تاريخ الجماعة الناطقة بها. ولعل عبارة “هون مربط الفرس” إحدى هذه العبارات التي ما زالت تُتداول حتى اليوم بوصفها تعبيرًا عن موضع العقدة أو النقطة الحاسمة في أي حديث أو قضية. من الناحية اللغوية، تحيل كلمة “مربط” إلى المكان الذي يُربط فيه الفرس كي يبقى تحت السيطرة ولا يفلت، وحين ينتقل هذا المعنى إلى المجال المجازي، يصبح المربط هو مركز الثقل، النقطة التي ينبغي الإمساك بها لفهم الصورة الكاملة أو لإحكام القبض على الفكرة المتشعبة.

لا يقتصر دلال العبارة على بعدها اللغوي الصرف، بل يتجاوزه إلى مستوى أعمق حين نتأمله في ضوء علم الاجتماع اللغوي. فالعبارة تمثل استمرارًا حيًّا للرموز التقليدية في الثقافة العربية، وتؤكد أن الموروث البدوي المرتبط بالفروسية ما زال حاضرًا في الوعي الجمعي رغم التحولات الحديثة. إن بقاء الفرس رمزًا للقوة والمكانة والنبالة يعكس كيف تُعاد صياغة الرموز في الذاكرة الثقافية وكيف تظل اللغة حاملةً لهذه الرمزية حتى حين يُفرَغ الرمز من محتواه المادي.

تستخدم هذه العبارة كذلك لأداء وظيفة اجتماعية لا تقل أهمية عن رمزيتها الثقافية؛ فهي أداة للضبط والحسم في سياق الكلام. فحين يقول أحدهم “هون مربط الفرس”، فإنه يعلن امتلاكه لمفتاح النقاش، موجِّهًا انتباه المخاطَبين إلى جوهر الحديث، ومحددًا مسار الحوار. هكذا تصبح العبارة أداةً لضبط التفاعل الكلامي، وتمنح المتكلم موقعًا سلطويًا مؤقتًا يؤهله لإدارة الحوار وحصره في نقطة محددة، بعيدًا عن التشتت والاستطراد.

من منظور آخر، تذكّرنا هذه العبارة بأن اللغة ليست كائنًا حياديًا، بل هي مرآة للعلاقات الاجتماعية ومسرحٌ للتفاوض على المعاني والقيم. فالعبارة تُستخدم في الغالب في سياقات النقاشات الجماعية، حين يعلو الضجيج وتتشابك المواقف وتتناثر التفاصيل، فيأتي هذا القول ليعيد النظام إلى الفوضى. إنها جملة تختصر وتكثّف وتعيد ترتيب الأهمية، فتفرض اتفاقًا ضمنيًا بين أطراف الحديث على أن كل ما عدا هذه النقطة تفاصيل ثانوية.

يُظهر حضور هذه العبارة في الكلام اليومي كيف أن المجتمعات تُبقي على ذاكرتها الرمزية حية من خلال أمثالها وتعبيراتها الاصطلاحية، مهما تغيّرت أساليب العيش ووسائل النقل والقيم المادية. فما عاد الفرس وسيلة تنقل أو رمزًا عسكريًا، لكن ظلّ “مربطه” حاضرًا في الوعي اللغوي باعتباره استعارةً عن نقطة الحسم والجوهر. وهذا يكشف جانبًا من وظيفة اللغة كوعاء للذاكرة وكأداة لإعادة إنتاج المعاني الاجتماعية وتمريرها من جيل إلى آخر، فتظل ثابتة في ظاهرها، متجددة في دلالاتها.

إن عبارة “هون مربط الفرس” ليست مجرد جملة عابرة؛ إنها تلخّص جوهر التفاعل الاجتماعي، وتبرهن على أن اللغة العامية ليست سطحًا بسيطًا بل طبقات من الرموز والدلالات التي لا تفقد بريقها لأنها ببساطة تُعيد تعريف نفسها مع كل استعمال جديد. من هنا يمكن القول إن سرّ بقاء مثل هذه العبارات حياً يكمن في حاجتنا الدائمة إلى لغةٍ مختصرةٍ تحسم، وترمز، وتربط حاضر النقاش بماضٍ ما زال حاضرًا في الأذهان.

الشارقة : دولة الإمارات العربية المتحدة 5-7-2025

Post Views: 13