قراءة في الدلالة النفسية والاجتماعية للغة الموت

بقلم

د. قاسم محمد كوفحي

تتكرر عبارة “توفي فلان بعد صراع طويل مع المرض” في الخطابات اليومية ووسائل الإعلام والإعلانات الجنائزية، حتى أصبحت جزءًا من اللغة المألوفة التي تمر دون البحث بها. إلا أن هذه العبارة، رغم بساطتها الظاهرة، تكشف عن طبقات عميقة من المعنى حين يُنظر إليها من زاويتي علم اللغة الاجتماعي وعلم النفس الاجتماعي، حيث تتداخل اللغة مع البنية الثقافية والنفسية للمجتمع.

من منظور علم اللغة الاجتماعي، فإن اختيار كلمة “صراع” لا يُعد محايدًا لغويًا، بل هو محمّل بدلالات ثقافية تعكس تصوّرًا معينًا للمرض والموت. فالمرض، في هذه العبارة، لا يُقدَّم كمجرّد حالة بيولوجية أو تجربة إنسانية طبيعية، بل يُؤطَّر ضمن إطار الحرب والمعركة. يُصبح الجسد ساحة قتال، والمريض محاربًا، والمرض عدوًا. هذا الاستخدام الاستعاري ينسجم مع النماذج الثقافية التي تميل إلى تمجيد البطولة الفردية والقدرة على المقاومة، حتى في سياقات لا تخضع للإرادة الشخصية. لكنه في الوقت ذاته، يُضمر فكرة أن الموت نتيجة للهزيمة، وأن المريض “خسر المعركة”، ما قد يحمل دلالات سلبية تجاه من رحل، أو شعورًا ضمنيًا بالفشل، وهو ما لا يتناسب مع واقع أن المرض والموت ليسا دائمًا مجالًا للاختيار أو القوة.

أما من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي، فإن هذه العبارة تؤدي دورًا نفسيًا واجتماعيًا مزدوجًا. من جهة، تُقدَّم كوسيلة لتوفير عزاء وتقدير رمزي للفقيد، حيث تُصوِّره على أنه قاوم المرض بشجاعة. ومن جهة أخرى، تُسهم في ترسيخ قيم اجتماعية تتعلّق بالصبر، والتحمّل، وعدم الاستسلام. تُصبح العبارة بمثابة صيغة لتهذيب تجربة الفقد، تمنحها إطارًا بطوليًا يُخفّف من وطأة العجز أمام الموت. كما تؤدي هذه العبارة وظيفة تعاطفية: فهي تحشد التعاطف والتقدير، وتجعل من قصة المريض الأخيرة حكاية تُروى بلغة الكرامة والثبات، بدلًا من الهشاشة أو الضعف، وهو ما قد يُريح أهل الفقيد ويمنحهم إطارًا إيجابيًا لتذكّره.

مع ذلك، لا تخلو عباراة “توفي فلان بعد صراع طويل مع المرض”  من آثار جانبية نفسية. ففي حالات معينة، قد يشعر المرضى أو عائلاتهم بضغط نفسي غير معلن للاستمرار في “الصراع”، حتى وإن أنهكتهم المعاناة أو لم تعد هناك جدوى طبية. كما يمكن أن تخلق هذه العبارة نمطًا من الإنكار الجماعي للهشاشة، فتصبح اللغة وسيلة للتقنّع، لا للتفهم. وهنا، تتحوّل الاستعارة إلى عبء: على المرضى، الذين يُتوقَّع منهم أن “يُحاربوا”، وعلى من تبقّى بعدهم، الذين قد يواجهون الحزن بلغة لا تعترف تمامًا بالانكسار، بل تُفضّل عليه البطولة.

تُظهر عبارة “توفي بعد صراع طويل مع المرض” كيف يمكن للغة أن تُجسّد منظورات اجتماعية ونفسية، وأن تؤطر التجارب الإنسانية بطرق تتجاوز المعنى الظاهري للكلمات. فهي ليست مجرد تقرير لحالة، بل بناء لغوي وثقافي يمسّ نظرتنا للمرض، والموت، والكرامة، والإنسان. وبينما تؤدي دورًا مهمًا في توفير السلوى وتكريم الفقيد، فإنها تستحق أيضًا تأملًا نقديًا يُعيد مساءلة الصور الثقافية التي تحملها، ويُفكّك ما يبدو مألوفًا، لكنه في الحقيقة مشحونٌ بالمعاني.

دبي : 27-7-2025

Post Views: 14