تُعدّ قيمة الصدق من أسمى القيم الأخلاقية التي دعا إليها الإسلام، وجعلها مقياسًا رفيعًا في بناء شخصية الإنسان المؤمن، ومقومًا أساسياً في صوغ العلاقات بين الأفراد والمجتمعات. فقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تؤكد على مركزية الصدق، لكن تبرز الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119] كمحور قيميّ جامع، يربط بين الإيمان والتقوى من جهة، والانتماء إلى فئة الصادقين من جهة أخرى. فالصادقون في هذه الآية ليسوا فئة أخلاقية فقط، بل هم جماعة روحية واجتماعية، يسعى المؤمن لأن يكون جزءًا منها بصدق القول وصدق النية وصدق السلوك.
الصدق في الإسلام ليس مجرد قيمة أخلاقية معزولة، بل هو إطار معرفي وسلوكي يشمل كل نواحي الحياة. فالصدق مع الله يظهر في الإخلاص، والصدق مع النفس في الاعتراف بالضعف والخطأ، والصدق مع الناس في القول والفعل. وقد ربطت السنة النبوية بين الصدق والهداية، وبين الكذب والضلال، فعن النبي ﷺ قال: “عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة“ [رواه البخاري ومسلم]. هذه العلاقة بين الصدق والجنة ليست عَرَضية، بل تعبّر عن بنية روحية تجعل من الصدق طريقًا إلى النجاة، في الدنيا والآخرة معًا.
من الناحية الاجتماعية، يُعد الصدق أساس الثقة التي تقوم عليها المجتمعات السليمة. فالمؤسسات تنهار حين يغيب الصدق، والعلاقات تتصدّع حين يحلّ الكذب مكان الوضوح، والحياة المشتركة تصبح مليئة بالريبة والخيانة حين لا يعود الناس يثقون في ما يُقال لهم. ولهذا، لا يمكن لأي عقد اجتماعي أو قانوني أن يستقيم دون هذه الفضيلة الأخلاقية التي تضمن الشفافية والعدل. فالصدق لا يقتصر على الأفراد، بل هو قيمة ينبغي أن تتحقق في الخطاب الإعلامي، والسياسة، والاقتصاد، والتعليم، وسائر المنظومات الاجتماعية التي تعتمد على التواصل والثقة.
في زمن تتكاثر فيه الأقنعة، ويصبح فيه الكذب أداة للترويج والتسويق والخداع، تتجلّى أهمية الصدق كموقف وجودي يربط الإنسان بما هو حقيقي وأصيل في داخله، ويصونه من التورط في الزيف والتزييف. إن الصدق ليس ضعفًا في عصر الخداع، بل هو شجاعة نادرة، وقدرة على مواجهة الذات والعالم دون حاجة إلى تزييف الحقائق. إن المجتمع الذي يربّي أبناءه على الصدق لا يحتاج إلى كثير من القوانين، فالفطرة الأخلاقية حين تتعزز تُغني عن أدوات الردع الخارجي، وتغرس في الإنسان رقيبًا داخليًا أصدق من أي سلطة.
إن الرسالة الأخلاقية التي ينبغي أن نُذكّر بها أنفسنا والآخرين، هي أن الصدق ليس ترفًا خُلقيًا، بل ضرورة إنسانية ودينية واجتماعية. فمن أراد أن يحيا حياة كريمة، وأن يُكوّن علاقات متينة، وأن يحظى باحترام الناس، وأن يلقى الله بقلب سليم، فليكن صادقًا. في القول والعمل، في الوعد والنية، في التديّن والتعبير. فالصدق ليس فقط أن تقول الحقيقة، بل أن تكون الحقيقة.
الشارقة : 22-3-2025