حوارات العاصفة: قراءة نقدية لرواية حوار الروح مع الزمن

بقلم

د. قاسم محمد كوفحي

في نصٍّ عابقٍ برائحة المطر وصرير الأبواب العتيقة، ينحت الكاتب قاسم محمد كوفحي ملامح عزلةٍ حميمةٍ، تجعل من البيت روحًا ثانية للإنسان، ومن العاصفة لغةً سرّيةً بين الزمن والذاكرة. النص الذي يقتطع حوارًا داخليًا عميقًا، لا يقدّم حكايةً بقدر ما ينسجُ تأملًا طويلًا في معنى الحنين، وشرعية البقاء وسط غيابٍ لا يكتمل.

في هذا المقطع، يتقاطع الخارج والداخل بحسٍّ شبه صوفي؛ فالمطر ليس مطرًا فقط، بل رسائل من السماء، نقراتٌ على زجاج الروح قبل نوافذ البيت. والبيت هنا ليس مجرّد جدرانٍ وأبوابٍ تتآكل من البلل، بل كيانٌ حيّ، شاهدٌ ومشاركٌ في مسرحية الوحدة، يتنفس مع أنين مقعدٍ خشبيٍّ وصرير بابٍ لا يُغلق جيدًا. كأنّ الجدران قد امتلكت ذاكرةً خاصةً، تحفظ أسرار القاطنين وتلتهمها ببطءٍ، كما تتساءل البطلة في وحشة الليل: «هل البيوت تحبّ ساكنيها حقًا، أم تلتهمهم؟»

جمال هذا النص يكمن في قدرته على أن يربّي القارئ على الصمت، أن يجرّه من الضوضاء المعتادة إلى طقسٍ داخليٍّ، حيث الصبر ليس قيمةً أخلاقيةً فحسب، بل “بيتٌ داخليّ” كما يصفه السرد. هذا التزاوج بين الداخل والخارج ـ بين صمت الغرف وضجيج المطر ـ يصنع في القارئ رجعَ السؤال الذي يهمس به النصّ: من يسكن من؟ هل نسكن البيوت أم هي تسكننا وتعيد تشكيلنا مثلما تعيد الريح ترتيب أوراق الشجر؟

من الناحية الأسلوبية، يستحضر كوفحي عباراتٍ شاعريةً تجيد الإصغاء لهدير المطر، وتحوّل التفاصيل اليومية إلى استعاراتٍ شاسعةٍ. فهو لا يكتفي بوصف مشهدٍ أو حالةٍ نفسيةٍ، بل ينقله إلى مستوى رمزيٍّ واسعٍ، حتى تصبح قطرة المطر بيتًا صغيرًا للوجع، والنافذة معبرًا سريًّا بين زمنين: زمنٍ مضى وترك ظلّه في رطوبة الجدران، وزمنٍ حاضرٍ يكابرُ ألّا ينهار.

كما يُتقن الكاتب لعبة الأشياء الصغيرة. كأس الشاي البارد، الكتاب المهترئ، الوردة اليابسة بين صفحاتٍ قديمة، كلها ليست محض إكسسواراتٍ بل هي “أبطال صامتون” في هذه المسرحية الداخلية. هنا تكمن مهارة السرد: في قدرته على منح الجمادات نبضًا إنسانيًا، لتصبح أحيانًا أكثر وفاءً من البشر الذين يرحلون.

أما الشمعة في نهاية النص، فتتوهّج كرمزٍ صلبٍ للهشاشة الجميلة: تلك القدرة على الإضاءة وسط ريحٍ لا تهدأ. في مشهد الشمعة تختصر البطلة حوارها مع الليل: نعم، قد تنحني أرواحنا للعاصفة، لكنها تحفظ في ذاكرتها شرارةً خفيةً للدفء. هذه الفكرة الجوهرية تصنع خيط الأمل وسط كل هذا الصمت: “ضوءٌ واحدٌ يكفي أحيانًا ليُربك الظلام.”

من منظورٍ نقدي، يمكن القول إن هذا المقطع ينتمي إلى مدرسة السرد التأمليّ الرمزيّ، التي لا تعتمد الحدث بقدر ما تستثمر اللغة كفضاءٍ لاستبطان الذات. هنا لا تُهمّنا الحركة ولا التصاعد الدراميّ، بقدر ما يهمّنا كيف تتحرّك الذات بين زوايا البيت وغرف الذاكرة. كل ما يحدث في الخارج (المطر، الريح، الفجر) ليس سوى مرآةٍ لما يحدث داخلها. إنّه سرد يجرّد الأشياء ليعيدها إلينا وقد اغتسلت من ابتذالها.

في نهاية هذا الحوار الطويل مع الزمن، تكتشف البطلة أنّها هي نفسها العاصفة والبيت والريح. وحين تمدّ كفّها نحو لهب الشمعة، فإنها تفعل ذلك لتختبر دفء فكرةٍ ظلت تخشاها: أنّ بداخل كل روحٍ بيتًا خفيًا من صبرٍ ونارٍ وظلالٍ، وأننا مهما تكسّرنا، سنظلّ نحمل بذور الضوء، تنتظر لحظةً مناسبةً لتشتعل.

هكذا يذكّرنا كوفحي أن بعض النصوص لا تُقرأ لتُفهم بقدر ما تُقرأ لتُصغي إلى صمتٍ يختبئ بين سطورها. نصّه ليس مجرّد “حوارٍ مع الزمن” بل هو حوارٌ مع هشاشة القلب وصلابة الصبر، مع ذاكرة البيوت وأرواحٍ تتعلّم أن تحرس ذاتها، حتى حين تغلق الأبواب على عاصفةٍ لا تنتهي.

Post Views: 14