في صباح هذا اليوم، بينما كنت أستمع إلى الأخبار على إحدى محطات التلفزة، لفت انتباهي مشهد تحليلي سياسي كان يتناول الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران، وتداعياتها المحتملة على المنطقة. لم يكن الموضوع في حد ذاته جديدًا أو مفاجئًا — حرب، وتهديدات، وتصريحات متبادلة — بل ما شدّ انتباهي حقًا كان فعلًا لغويًا صغيرًا، لكنه عميق الأثر: الترجمة الفورية.
ولأنني أحمل عشقًا قديمًا ومتجددًا للترجمة والدراسات اللغوية، فإن أذني تلتقط بعناية ما قد لا يلتفت إليه الآخرون. اللغة بالنسبة لي ليست مجرد وسيلة نقل للمعلومة، بل كائن حي ينبض بالتعدد والتأويل، وفضاء من التفاعلات الخفية بين الكلمات والثقافات، وبين الدلالة والسياق، وبين القائل والمُتلقي. الترجمة، في هذا الإطار، تمثل لي مرآة دقيقة تعكس هشاشة المعنى، وقوة الكلمة، وقدرة الإنسان على التنقل بين العوالم اللغوية برشاقة أو بتعثر.
من هنا، لم يكن وقع العبارة التي نطق بها المترجم، وهو يترجم حديث الخبير الأمريكي، مجرد هفوة عابرة. لقد كانت لحظة تأمل بالنسبة لي، لحظة رأيت فيها كيف يمكن للترجمة أن تفتح لنا بابًا غير متوقع نحو دلالات جديدة، وتضعنا أمام لغز المعنى حين يختلط فيه الإبداع بالزلّة، والسخرية بالبلاغة، والخطأ بالمجاز.
كان أحد الخبراء الأمريكيين يتحدث عن السيناريوهات العسكرية المحتملة، وكان المترجم الفوري يؤدي عمله بوضوح وسرعة. وفجأة، قال المترجم “أمريكا سوف تهاجم إيران بهجمات صيدلانية.”
توقفت لحظة، ليس لأني خفت من “الهجمات”، بل لأني انبهرت بهذا المصطلح: “هجمات صيدلانية”!
في اللحظة الأولى، بدا التعبير غريبًا وغير مألوف، حتى مضحكًا. لكنه، في الوقت نفسه، أثار فيّ تساؤلات لغوية عميقة، وتأملًا في العلاقة بين اللغة والمعنى، وبين الأصل والترجمة، وبين ما يُقصد وما يُقال.
من الواضح أن المترجم قد أخطأ في ترجمة المصطلح الأصلي، الذي يُحتمل أنه كان “pharmaceutical attacks”. هنا، نلحظ كيف يمكن أن تؤدي الترجمة الحرفية، أو غياب المعرفة السياقية، إلى خلق معانٍ جديدة غير مقصودة.
لكن السؤال الأعمق هو: هل كان هذا مجرد “خطأ”؟ أم أنه كشف لنا، من حيث لا ندري، عن طاقة اللغة الإبداعية؟ فمصطلح “هجمات صيدلانية” بقدر ما هو غريب، يحمل في طياته طيفًا من الصور الذهنية: هجوم يتم على جرعات، ببطء، عبر أدوية لا تداوي بل تؤذي، أو عبر تسريب مواد بيولوجية تُستخدم كأدوات حرب لا كوسائل شفاء.
لغويًا، ما حدث يمكن اعتباره “زلّة ترجمة” (translation slip)، لكن هذه الزلة تُنتج بلاغة جديدة. ففي علم اللغة، يمكن لما يسمى بـ “malapropism” أو الاستخدام الخاطئ للكلمات أن يكشف عن جوانب غير متوقعة للمعنى. والترجمة، كما نعلم من نظرية “التكافؤ الديناميكي” (Dynamic Equivalence) عند يوجين نايدا، لا تتعلق فقط بنقل الكلمات، بل بإعادة خلق الأثر النفسي والمعنوي للنص الأصلي بلغة جديدة.
في هذا السياق، فمصطلح “هجمات صيدلانية” قد لا يكون ترجمة صحيحة، لكنه خلق استعارة جديدة، ذات طابع سيميائي كثيف. فالصيدلية — هذا الفضاء المرتبط بالعلاج والشفاء — يتحول في الترجمة إلى ساحة للعدوان والسيطرة، وهذا بحد ذاته يعكس التوتر القائم في عالمنا بين ما هو إنساني وما هو أيديولوجي.
ما بين الأمانة للنص الأصلي والإبداع في الترجمة تقع التحديات الكبرى في علم الترجمة. هناك من ينادي بضرورة الالتزام الحرفي، وهناك من يرى أن المعنى الأعمق هو الأجدر بالترجمة. الخطأ في هذا السياق، يمكن أن يتحول إلى فرصة للكشف عن إمكانات اللغة، وعن التوتر القائم بين الدال والمدلول.
في علم الترجمة، يفرّق الباحثون بين الترجمة “اللفظية” والترجمة “المعنى-محورية” (sense-for-sense). فلو كان المترجم قد فهم السياق العسكري للكلام، لاستخدم مصطلحًا مثل “هجمات بيولوجية” أو “هجمات كيميائية”. لكنه استخدم “صيدلانية”، ففتح أمامنا نافذة غير مقصودة على مستوى آخر من التأويل: التلاعب بالعقاقير، أو استخدام الدواء كسلاح، أو المرض بوصفه أداة هيمنة.
ما حدث في ذلك الصباح ليس فقط موقفًا لغويًا عابرًا، بل هو لحظة تتجلى فيها اللغة ككائن حي، يتعثر أحيانًا، لكنه يكشف لنا من خلال تعثره عن مسارات جديدة للفهم. الترجمة، في هذا السياق، ليست مجرد نقل للكلمات، بل هي مواجهة بين عالمين، واختبار لقوة اللغة في نقل المعنى دون أن تفقد روحها.
“الهجمات الصيدلانية” قد تكون مجرد زلة، لكنها في زلتها خلقت نصًا جديدًا، أشبه بالشعر — نصًا يجعلنا نتوقف، ونفكر، ويمكن أم نقول: حين يُعاد تعريف الحرب بأدوات العلاج، فذلك زمن علينا أن نقرأه بعيون لغوية جديدة.
مع تحيات :
د. قاسم محمد كوفحي
كاتب روائي وناقد أدبي